فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي إنما كلّ أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره؛ فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} تقدّم في الأنعام.
وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعوني واكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم، فنزلت هذه الآية؛ أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه.
يقال: وَزَرَ يزِرِ وَزْرا ووِزْرَة، أي أثِم. والوِزر: الثِّقْل المثقِل والجمع أوزار؛ ومنه {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] أي أثقال ذنوبهم.
وقد وَزَر إذا حَمَل فهو وازر؛ ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثِقْل دولته. والهاء في قوله كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تَلْقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم يكن حجري لك وِطاء، ألم يكن ثديي لك سِقاء، ألم يكن بطني لك وعاء،! فيقول: بلى يا أُمّه فتقول: يا بني فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبًا واحدا فيقول: إليك عني يا أمّه! فإني بذنبي عنكِ اليوم مشغول.
مسألة
نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الردّ على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعَذَّبُ ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنه لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإِنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير؛ كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقَيْلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية؛ فلا وجه لتخطئتهم.
ولا معارَضة بين الآية والحديث؛ فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصيّة الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طَرَفة:
إذا مِتّ فانعيني بما أنا أهله ** وشُقّي عليّ الجيب يا بنت مَعْبَدِ

وقال:
إلى الحَوْل ثم اسم السلام عليكما ** ومن يَبْك حولًا كاملًا فقد اعتذر

وإلى هذا نحا البخاري.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذَّب بنَوْحِهم؛ لأنه أهمل نهيهَم عنه قبل موته وتأديبَهم بذلك، فيعذَّب بتفريطه في ذلك؛ وبترك ما أمره الله به من قوله: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] لا بذنب غيره، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} أي لم نترك الخلق سُدًى، بل أرسلنا الرسل.
وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافًا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر.
وقد تقدّم في البقرة القول فيه.
والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا؛ أي أن الله لا يهلك أمة بعذابٍ إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار.
وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌقَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا} [الملك: 8] قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبَثّ المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفِطَر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار.
وهذه الآية أيضًا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفَتَرات الذين قد قدّر وجودَهم بعضُ أهل العلم.
وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف.
قال المهدوِيّ: وروي عن أبي هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولًا إلى أهل الفترة والأبكم والأخرس والأصم؛ فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية؛ رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، ذكره النحاس.
قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعًا في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى؛ ولا يصح وقد استدلّ قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى؛ وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم.
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى:
أخبر الله تعالى في الآية التي قبلُ أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله عالى أمر مترفيها بالفِسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك فإنّما هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى.
الثانية:
قوله تعالى: {أَمَرْنَا} قرأ أبو عثمان النَّهْدِيّ وأبو رَجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن {أمَّرْنا} بالتشديد، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه؛ أي سلّطنا شرارها فعصَوْا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدِيّ {أمّرنا} بتشديد الميم، جعلناهم أمراء مسلَّطين؛ وقاله ابن عَزيز. وتأمّر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضًا وقتادة وأبو حَيْوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كَثير وعليّ وابن عباس باختلاف عنهما {آمرنا} بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها؛ قاله الكسائِيّ. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته، لغتان بمعنى كثّرته؛ ومنه الحديث: «خير المال مُهْرَةٌ مأمُورة أو سِكّة مأبورة» أي كثيرة النِّتاج والنَّسل.
وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنًى واحد؛ أي أكثرنا.
وعن الحسن أيضًا ويحيى بن يَعْمَر «أمِرنا» بالقصر وكسر الميم على فَعِلنا، ورويت عن ابن عباس.
قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا؛ وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد؛ قال وأصلها أأمرنا فخفف، حكاه المهدويّ.
وفي الصحاح: وقال أبو الحسن أَمِر مالُه بالكسر أي أكثره.
وأَمر القوم أي كثروا؛ قال الشاعر:
أَمِرون لا يرثون سَهْمَ القُعْدُدِ

وآمر الله مالَه بالمد.
الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أَمِرٌ، والفعل منه: أمِرَ القومُ يأمَرون أمرًا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحيّ إذا كثروا: أَمِر أمْرُ بني فلان؛ قال لَبيد:
كلُّ بني حُرَّةٍ مَصيرُهمُ ** قُلٌّ وإن أكثَرتْ من العددِ

إن يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وإن أَمِرُوا ** يومًا يصيروا للهُلْكِ والنَّكَدِ

قلت: وفي حديث هِرَقل الحديث الصحيح: «لقد أَمِرَ أَمْرُ ابنِ أبي كَبشة، ليخافه ملك بني الأصفر» أي كثر.
وكله غير متعدّ ولذلك أنكره الكسائي، والله أعلم.
قال المهدوِي: ومن قرأ أَمِر فهي لغة، ووجه تعدية أمِر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقربَ شيء إلى العمارة، فعدّى كما عدّى عمر.
الباقون: {أَمَرْنا} من الأمر؛ أي أمرناهم بالطاعة إعذارًا وإنذارًا وتخويفًا ووعيدًا.
{فَفَسَقُواْ} أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا.
{فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} فوجب عليها الوعيد؛ عن ابن عباس.
وقيل: {أَمَرْنا} جعلناهم أمراء؛ لأن العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر.
وقيل: معناه بعثنا مستكبريها.
قال هارون: وهي قراءة أبي: {بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا} ذكره الماوَرْدِيّ.
وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي: {وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول}.
ويجوز أن يكون {أمرنا} بمعنى أكثرنا؛ ومنه {خير المال مُهْرَةٌ مأمورة} على ما تقدّم.
وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة؛ كالغدايا والعشايا.
وكقوله: «إِرْجِعن مأزورات غير مأجورات».
وعلى هذا لا يقال: أَمَرهم الله، بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره.
واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة.
قال أبو عبيد: وإنما اخترنا {أمرنا} لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الأمر والإِمارة والكثرة.
والمُتْرَف: المنعّم؛ وخُصّوا بالأمر لأن غيرهم تبع لهم.
الثالثة
قوله تعالى: {فَدَمَّرْنَاهَا} أي استأصلناها بالهلاك.
{تَدْمِيرًا} ذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم.
وفي الصحيح من حديث زينب بنت جَحْش زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فَزِعا مُحْمَرًّا وجهه يقول: «لا إله إلا الله ويْلٌ للعرب من شَرٍّ قد اقترب فُتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها» قالت: فقلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كَثُر الخبث» وقد تقدّم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تُغيّر كانت سببًا لهلاك الجميع؛ والله أعلم.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} أي كم من قوم كفروا حلّ بهم البَوار.
يخوّف كفّار مكة؛ وقد تقدّم القول في القرن في أوّل سورة الأنعام، والحمد لله.
{وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا} {خبيرًا} عليمًا بهم.
{بَصِيرًا} يُبصر أعمالهم؛ وقد تقدّم. اهـ.

.قال ابن كثير:

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى آثار النبوة، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه {وَمَنْ ضَلَّ} أي: عن الحق، وزاغ عن سبيل الرشاد، فإنما يجني على نفسه، وإنما يعود وبال ذلك عليه.
ثم قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر: 18].
ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك، ولا يحملوا عنهم شيئًا. وهذا من عدل الله ورحمته بعباده.
وكذا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9]، وكذا قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]